جِيتَارُوتْشِيلّو.. حلم أَمْ عِلم؟
ـ بعد أن تُحُدِّثَ في الفضاء التدوينيّ عن التزامُنيّة يوماً ما، يدور الحديث هذه الأيّام أيضاً عن الصُدَف ومحاسنها. وها هُنا ما قد يتخطّى المُصادَفات ويفوقُ الأحلام...
تهْيِئة المشهَدْ (نَصْبُ الخَلْفيّة؟):
أنتَ في بلدٍ يبعُد عن وَطَنِك آلاف الأميال، وفي مدينة تحمِل اسم أولى عواصِم وطنك بعدَ أنْ عرِفَ الوحدة {ممفيس (منف) عاصمة القُطرين الموحدّين}
لكَ أكثر من خمسة أعوام في هذه الغُربة
تجلِسُ في ضيافة الدكتورة/م.ع. أستاذ المصريّات المساعِد بقسم الفنون بجامعة ممفيس
في صُحبة تضُمّ قسّيساً إنجيليّاً أمريكيّاً وإيرانيّة مُسلمة، الإيرانيّة هي عازفة الجيتار وأستاذة تدريس عزفه في الجامعة المذكورة، وإلى جانبها يجلس عازف التشيللو الأوّل بأوركسترا ممفيس السيمفوني چِِيك مَزّي* ذي الميل السياسيّ اليمينيّ المُحافِِظ.
تجتمِعون جميعاً على الغذاء يوم الأحد لتذوّق صحن من...
أجل! الكُشَري المصريّ وحساء العدس مصحوباً بسلطة يونانيّة، والحلو...؟
طبعاً! الكُشريّ لا يُحَلَّى بعده إلاّ بالأرز باللبن بالمكسّرات الّذي أَعَدَّتْهُ زَوْجَتُك.
-قطع-
هل يبدو هذا كمشروع حُلم لَيْلَة شتاء؟ هل يبدو كمخطوط رؤيويّ (أپوكاليپتيّ) يسكُن فيه الذئب مع الحمل ويقودُهما طفلٌ صغير، وتَتَجَمَّع فيه الشعوب والثقافات المتنافرة على مائدة واحدة؟
لَيْسَ حُلماً.. ولم تكُن هذي سِوى المُقَدِّمة، فلمْ أقُلْ لكُم كلَّ شيءٍ بعد عن كيفيّة قضائي نهار الأحد الماضي...
--
إعْدادُ المَشهَدْ (الديكُور المعنويّ؟)
ينتهي الغذاء
نلتهِمُ الأرز باللبن
تطلُب لِيلِي أَفْشار الإيرانيّة الأمريكيّة قَدحاً آخر من القهوة... وتختفي بُرهةَ لتَخرُج مُمسِكةً بجيتارِها ثمّ يتبعها چيك حاملاً آلة التْشيللو (الڤيولونتشيللو) ويهمّان بإيلاف (دَوْزَنة) أوتارهما ثمّ يعلنُ أحدهما عمّا يَنْوِيان عَزْفَهُ: سُوناتا الفْلُوت والهَارْپْسِيكورْد (من مقام مي صغير) ليوهان سيباستيان باخ وقَدْ عُولِجَت لتصير سوناتا التْشيللو في دور الفلوت) والجيتار (في دور الهارپسيكورد مُستَعيراًَ بعضَ نغمات الفلوت التي عَجَزَ عنها التشيللو).
يبدأُ العزْفُ وأنا غيَرُ مُدرِكٍ أوْ مُصَدِّق.. كانت "م.ع." قد دَعَتنا للغذاء واللقاء بهَذيْن الموسيقيَّيْن لعملها باهتمامِنا بهذا الفنّ وتقديرِنا لهذا اللون الفنّيّ المُشرفِ على الانقراض، ولَمْ أعرِف عن العزفِ شيئاً ولَمْ أتوقَّعْهُ.
لَمْ يحدُث لي قط أن أكُونَ بهذا القُرب مِن آلة التشيللو، ولا مِن عازفين محترفين بهذا المُستَوى ...
المَشْهَد (الاندِماجة؟)
تتساقَطْ قطراتُ أوتارِ الجيتار على نوافِذي (متناغِمةً مع الجوّ الخارجيّ الغائِمِ نِصفِ المَطير) لتُرَطِّبَ القشرة الخارجيّة من كياني، ثم تنسابُ عصا التشيللو على الأوتارِ لتَجِدَ مكانَها المألوف على أوتار قلبي .. وأجد نفسي مُجبَراً على ممارسة طقوس الإنصات، فأحبِسُ أنفاسي ونَحنحاتي مُرجِئاً إيّاهُم إلى ما بَيْنَ الحَركات، ثم أتنازَلُ عن طبق الأرز باللبن (الثاني) وأضَعُه في هُدوءٍ وحِرصٍ على المائدة... وأراقِب ليلي وچيك وآلتَيْهِما الساحرتين ولهب المدفأة من خلفهما وأغمِضُ عينَيّ...
يتحالفُ تأثيرُ التشيللو على داخلي مع تأثير الجيتار على خارجي...
أفقدُ الزمانَ والمكانَ لِلَحْظَةٍ مِقدارُها سَبْعةُ أَسابيعَ...
-دُخّان الأحلام (يُمكِن توليده بِبَلِّ لَوْحِ ثَلْجٍ جاف)
قصور أوروپّية قديمة.. مدافئ خشبيّة ورائحة حَطَبٍ مُحتَرِق... نُبَلاءٌ يُنصِتون يعلو رُءُوسَهُم شعْورٌ مُستعارة.. أمْطارٌ رقيقةُ تنساب مُتَشََعِّبةً ناقِرةً على زُجاجٍ مُزَركَشٍ تحمِلُ مَعْها رائحةَ قلفِ الأشجارِ غَيْرَ المَألوُفة..
إِنهاءُ المَشهَد (الإِفاقة؟)
وحين تنتهي السوناتا.. يحدُث أمرٌ آخر لا يحدُث سوى في الأحلامِ العَبَثيّة: تَقْلِبُ لِيلِي فنجالَها (الّذي كانت تَحتَسيه بَيْنَ الحَرَكات)، ثُمَّ تقرأُ-بعَيْنَيْها وفي سِرِّها-ما تركتْهُ القهوة التُركيّة علي جداره من خطوط، وينتابَها شَيءٌ مِنْ قَلَق.
-قطعٌ بَعْدَ-تَمسْرُحِيّ-
التشيللو.. ذلك الساحر..
ما مِن آلةٍ موسيقيّة أُخرى لها ذلك الوقع الـ... الـ... عميق الـ... سحيق على أوتار القلوب....
تنزِلُ نغماتُه الرخيمةُ فتُحَرِّكُ أعمَقَ ما بِكَيانِكَ مِنْ مُوَلِّدات المشَاعِرِ ومُستقبلاتِها
لكلّ آلة موسيقيّة مُستَقبِل، والتشيللو يلمسُ عِرْقَ شَجَنٍ في عُمق الكيان... في جَوْفِ الجَوْف...
وإن كُنتُم لا تصدّقوني.. اسألوا الحركتَيْن الأخيرتَيْن مِن خامِسة بيتهوفن... ذلك الرجُل الذي عرِف كيف يستخدم التشيللو ليقول لك كلّ ما بوسعِكَ إدراكه بل أكثر كثيراً.
على الهامِش (خارج الاندماج)...
١) بعدَ العزف والإفاقة، سألتُ چيك ثانيةً عن اسمِ السوناتا، فأهداني عُنوان هذا المَوْقع الذي يجمَع أرشيفاً نادراً حاوياً للموسيقى الكلاسيكيّة، والمشتركُ الفقير (مجّاناً) لهُ في اليَوْمِ أنْ يستمع لخمسة ملفّاتٍ (بينما من يدفع ٢٥ دولاراً يستطيع "استِنْزال" المَوْقِع كلّه!).
٢) لَيْسَ الحُلمُ كلَّ شيءٍ هُنا... بل ما يثيرُ العجبَ ويُخرِجُ مَحاسِنَ الصُدَفِ من جُحْرِها، هو ما أسقطتُهُ من المَتْنِ لتَنَافُرِه مع الجوّ النفسيّ: كان چيك يتحدّث عن ذلك الكتاب القابع على المائدة.
اسم الكتاب؟
بلوج**!
ـتهْيِئة المشهَدْ (نَصْبُ الخَلْفيّة؟):
أنتَ في بلدٍ يبعُد عن وَطَنِك آلاف الأميال، وفي مدينة تحمِل اسم أولى عواصِم وطنك بعدَ أنْ عرِفَ الوحدة {ممفيس (منف) عاصمة القُطرين الموحدّين}
لكَ أكثر من خمسة أعوام في هذه الغُربة
تجلِسُ في ضيافة الدكتورة/م.ع. أستاذ المصريّات المساعِد بقسم الفنون بجامعة ممفيس
في صُحبة تضُمّ قسّيساً إنجيليّاً أمريكيّاً وإيرانيّة مُسلمة، الإيرانيّة هي عازفة الجيتار وأستاذة تدريس عزفه في الجامعة المذكورة، وإلى جانبها يجلس عازف التشيللو الأوّل بأوركسترا ممفيس السيمفوني چِِيك مَزّي* ذي الميل السياسيّ اليمينيّ المُحافِِظ.
تجتمِعون جميعاً على الغذاء يوم الأحد لتذوّق صحن من...
أجل! الكُشَري المصريّ وحساء العدس مصحوباً بسلطة يونانيّة، والحلو...؟
طبعاً! الكُشريّ لا يُحَلَّى بعده إلاّ بالأرز باللبن بالمكسّرات الّذي أَعَدَّتْهُ زَوْجَتُك.
-قطع-
هل يبدو هذا كمشروع حُلم لَيْلَة شتاء؟ هل يبدو كمخطوط رؤيويّ (أپوكاليپتيّ) يسكُن فيه الذئب مع الحمل ويقودُهما طفلٌ صغير، وتَتَجَمَّع فيه الشعوب والثقافات المتنافرة على مائدة واحدة؟
لَيْسَ حُلماً.. ولم تكُن هذي سِوى المُقَدِّمة، فلمْ أقُلْ لكُم كلَّ شيءٍ بعد عن كيفيّة قضائي نهار الأحد الماضي...
--
إعْدادُ المَشهَدْ (الديكُور المعنويّ؟)
ينتهي الغذاء
نلتهِمُ الأرز باللبن
تطلُب لِيلِي أَفْشار الإيرانيّة الأمريكيّة قَدحاً آخر من القهوة... وتختفي بُرهةَ لتَخرُج مُمسِكةً بجيتارِها ثمّ يتبعها چيك حاملاً آلة التْشيللو (الڤيولونتشيللو) ويهمّان بإيلاف (دَوْزَنة) أوتارهما ثمّ يعلنُ أحدهما عمّا يَنْوِيان عَزْفَهُ: سُوناتا الفْلُوت والهَارْپْسِيكورْد (من مقام مي صغير) ليوهان سيباستيان باخ وقَدْ عُولِجَت لتصير سوناتا التْشيللو في دور الفلوت) والجيتار (في دور الهارپسيكورد مُستَعيراًَ بعضَ نغمات الفلوت التي عَجَزَ عنها التشيللو).
يبدأُ العزْفُ وأنا غيَرُ مُدرِكٍ أوْ مُصَدِّق.. كانت "م.ع." قد دَعَتنا للغذاء واللقاء بهَذيْن الموسيقيَّيْن لعملها باهتمامِنا بهذا الفنّ وتقديرِنا لهذا اللون الفنّيّ المُشرفِ على الانقراض، ولَمْ أعرِف عن العزفِ شيئاً ولَمْ أتوقَّعْهُ.
لَمْ يحدُث لي قط أن أكُونَ بهذا القُرب مِن آلة التشيللو، ولا مِن عازفين محترفين بهذا المُستَوى ...
المَشْهَد (الاندِماجة؟)
تتساقَطْ قطراتُ أوتارِ الجيتار على نوافِذي (متناغِمةً مع الجوّ الخارجيّ الغائِمِ نِصفِ المَطير) لتُرَطِّبَ القشرة الخارجيّة من كياني، ثم تنسابُ عصا التشيللو على الأوتارِ لتَجِدَ مكانَها المألوف على أوتار قلبي .. وأجد نفسي مُجبَراً على ممارسة طقوس الإنصات، فأحبِسُ أنفاسي ونَحنحاتي مُرجِئاً إيّاهُم إلى ما بَيْنَ الحَركات، ثم أتنازَلُ عن طبق الأرز باللبن (الثاني) وأضَعُه في هُدوءٍ وحِرصٍ على المائدة... وأراقِب ليلي وچيك وآلتَيْهِما الساحرتين ولهب المدفأة من خلفهما وأغمِضُ عينَيّ...
يتحالفُ تأثيرُ التشيللو على داخلي مع تأثير الجيتار على خارجي...
أفقدُ الزمانَ والمكانَ لِلَحْظَةٍ مِقدارُها سَبْعةُ أَسابيعَ...
-دُخّان الأحلام (يُمكِن توليده بِبَلِّ لَوْحِ ثَلْجٍ جاف)
قصور أوروپّية قديمة.. مدافئ خشبيّة ورائحة حَطَبٍ مُحتَرِق... نُبَلاءٌ يُنصِتون يعلو رُءُوسَهُم شعْورٌ مُستعارة.. أمْطارٌ رقيقةُ تنساب مُتَشََعِّبةً ناقِرةً على زُجاجٍ مُزَركَشٍ تحمِلُ مَعْها رائحةَ قلفِ الأشجارِ غَيْرَ المَألوُفة..
إِنهاءُ المَشهَد (الإِفاقة؟)
وحين تنتهي السوناتا.. يحدُث أمرٌ آخر لا يحدُث سوى في الأحلامِ العَبَثيّة: تَقْلِبُ لِيلِي فنجالَها (الّذي كانت تَحتَسيه بَيْنَ الحَرَكات)، ثُمَّ تقرأُ-بعَيْنَيْها وفي سِرِّها-ما تركتْهُ القهوة التُركيّة علي جداره من خطوط، وينتابَها شَيءٌ مِنْ قَلَق.
-قطعٌ بَعْدَ-تَمسْرُحِيّ-
التشيللو.. ذلك الساحر..
ما مِن آلةٍ موسيقيّة أُخرى لها ذلك الوقع الـ... الـ... عميق الـ... سحيق على أوتار القلوب....
تنزِلُ نغماتُه الرخيمةُ فتُحَرِّكُ أعمَقَ ما بِكَيانِكَ مِنْ مُوَلِّدات المشَاعِرِ ومُستقبلاتِها
لكلّ آلة موسيقيّة مُستَقبِل، والتشيللو يلمسُ عِرْقَ شَجَنٍ في عُمق الكيان... في جَوْفِ الجَوْف...
وإن كُنتُم لا تصدّقوني.. اسألوا الحركتَيْن الأخيرتَيْن مِن خامِسة بيتهوفن... ذلك الرجُل الذي عرِف كيف يستخدم التشيللو ليقول لك كلّ ما بوسعِكَ إدراكه بل أكثر كثيراً.
على الهامِش (خارج الاندماج)...
١) بعدَ العزف والإفاقة، سألتُ چيك ثانيةً عن اسمِ السوناتا، فأهداني عُنوان هذا المَوْقع الذي يجمَع أرشيفاً نادراً حاوياً للموسيقى الكلاسيكيّة، والمشتركُ الفقير (مجّاناً) لهُ في اليَوْمِ أنْ يستمع لخمسة ملفّاتٍ (بينما من يدفع ٢٥ دولاراً يستطيع "استِنْزال" المَوْقِع كلّه!).
٢) لَيْسَ الحُلمُ كلَّ شيءٍ هُنا... بل ما يثيرُ العجبَ ويُخرِجُ مَحاسِنَ الصُدَفِ من جُحْرِها، هو ما أسقطتُهُ من المَتْنِ لتَنَافُرِه مع الجوّ النفسيّ: كان چيك يتحدّث عن ذلك الكتاب القابع على المائدة.
اسم الكتاب؟
بلوج**!
* نشرت في "لنتعدَّ الطبيعيّ" بتاريخ ٢٣ فبراير ٢٠٠٥