Saturday, July 30, 2005

الفول السوداني وحقوق القرد


ـ وعد: أعدكُم أن تكون هذه آخر تدوينة عن مواقف تحدث لي خلال السفر، على الأقلّ لمدّة شهرين من اليوم، والسبب البسيط هو أنّني لن أسافر لمدّة شهرين على الأقلّ، قولوا إن شاء الله ـ

كما هو واضح من الوعد أعلاه، أحاول التوقُّف عن تحويل هذه المدوّنة من "لنتعدَّ الطبيعيّ" إلى "لنغرق في العادي!" أو إلى "سفريّات رامي المملّة"، لكنّ ما حدث هذا الصباح جعل أصابعي تأكُلني، ورغم نُعاسي وتعبي، قفزت الأصابع نقراً نقراً على لوحة المفاتيح، لتسجيل لوحة هذا الصباح من فنّ الحريّة المرفّهة.
ولسببٍ ما أريد أن أكتبها على طريقة كتاب النصوص بتاع ثانوي!

لم أنَمْ من ليلةِ الأمس كثيراً. فقد أنهيتُ حزمَ حقائبي في ساعةٍ متأخّرةٍ من الليل، بل قُلْ ساعةً مُبَكِّرة من الصباح. وقد تسألني عن سبب سهري، ويؤسفني أنّني سأخفيه عنكَ، فلا علاقةَ لهُ بما أريدُ قوله، وأنا لا أبغي إلاّ تفادي الاستطراد غير الضروريّ، للدخول في الموضوع بلا مقدِّمات لا داعيَ لها. كلّ ما في الأمر أنّني لا أتذكّر أبداً أنّني حزمتُ حقائبي مُبَكِّراً، وكأنّه صارَ طبعاً يغلبُ كُلَّ تَطَبُّعٍ.
ولأنّ موعد الطائرة التي ستُعيدُني من سان فرانسيسكو هو الثامنة والنصف، ولأنّ إجراءات الأمن المُستَحدَثة تتطلَّب وجودي في المطار قبل الطائرة بساعةٍ ونصف على الأقلّ، ولأنّ المطار يبعد عن الفندق مسافةً تُقطَع في ما لا يقلُّ عن عشرين دقيقةً من الزمان، ولأنّ...
أف...
إيه الملل ده.
ـ

كلّ ما في الأمر أنّني استيقظتُ حوالي السادسة صباحاً بعد أن نمتُ في الثالثة، وذهبتُ إلى المطار نصف نائم، ومررتُ بطابور التفتيش الطويل، ثم ووقفتُ في طابور طويل آخر لآكل أيّ شيء قبل الركوب لأنّ الطائرات الداخليّة حالياً لا تُقَدِّم وجبات إلاّ للدرجة الأولى، ثم هرولتُ إلى باب الطائرة قبل أن آكل ما ابتعته، وإذا بي أسمع أغرب تحذير سمعته في حياتي:
أحد رُكّاب الطائرة رقم كذا المتّجهة إلى كذا لديه حساسيّة شديدة من فول السوداني.
الرجا من السادة الُركّاب عدم اصطحاب أيّة مأكولات أو مشروبات تحتوي على الفول السوداني أو زبدة فول السوداني إلى الطائرة، وشكراً.
وبعدها بدقيقتَيْن: مرّةً أخرى، نحبُّ أن ننبِّهَكُم: هذه الرحلة خالية من فول السوداني ومشتقّاته.
This flight is a peanut-free flight!
أمّا في الطائرة، فقد قدّموا-لمن اشترى-أكياس المقرمشات، وقد استبدلوا الفول السوداني فيها بالـكاشو!
يا حلاوة يا ولاد!!! يعني لو خدت كيس سوداني في جيبي هيشمّه؟
ماذا لو كان أحد الرُكّاب "قرداً"؟ هل كان صراع سيشبّ بين حقوق الفرد وحقوق القرد*؟
نظرتُ في كيس الطعام الذي ابتعته فوجدت موزةً (ثمنها دولار بالمناسبة!) خفتُ من القرد المزعوم-وجوده يهدّد وجودي!

أتذكّر كم كُنتُ أتبرَّم في عامي الأوّل في الولايات المتّحدة لرؤية كم العلامات التي تشير إلى المعاقين، وكراسيهم المتحرّكة، وكيف أنّ جميع أرصفة الشوارع بها فتحات منحدرة لإتاحة حركة من على كراسي مُتَحرِّكة. كُنتُ وقتها أعتبر هذا مستفزّاً مقارنةً بأنّ المواطن غير المُعاق لا حقوق لها أصلاً في بلدي.
ـ "قالبين البلد كلّها يعني عشان المعوّقين؟"
ـ يعني يقعدوا في البيوت؟
ثم تنبّهتُ فجأة إلى أنّ المواطنين ليسوا "ليموناً". العدد في الليمون، لكن كُلّ إنسان هو إنسان. سواء كان ١٪ أو حتّى ١ في المليون*. فهذا الراكب "الحسّاس" ضمن حوالي ١٠٠ راكب لا يزال "إنساناً" "فرداً" له حقّ أن يركَب الطائرة دون مخاطرة بصحّته.

ثم دارت في ذهني تخاريف سببتها قلّة النوم:
حقوق الفرد
عقوق الفرد
حقوق القرد
حقوق الجماعة
حقّ الله
حق المجتمع
حقّ الوطن
حق الترللي
مواطن واحد؟
قلّة منحرفة
واحد في المية.. يبقي أقليّة
إنّ شعب الطائرة لن ينثنيَ ولن يتراجع عن حقّه في أكل السوداني من أجل حالة استثنائيّة، لا سيّما في هذه المرحلة الحرجة.
لا تنسوا أنّنا كلّنا سنأكل السوداني قريباً، بمزاجنا أو بدونه!

وتصبحوا على خيير

ـــــــ
* هامش: لاحظ الجناس الناقص بين الفرد والقرد، وبين الليمون والمليون (وهو جناس أكثر من ناقص)
كم كانوا يفسدون علينا النصوص بمصمصتها وإعطائنا العظام!

(نُشِرَت في "لنتعدَّ الطبيعيّ")
ـ

0 Comments:

Post a Comment

<< Home

counter
StatCounter eXTReMe Tracker